فصل: تفسير الآيات (74- 77):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم



.تفسير الآيات (74- 77):

{وَلَوْلَا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا (74) إِذًا لَأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيرًا (75) وَإِنْ كَادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْهَا وَإِذًا لَا يَلْبَثُونَ خِلَافَكَ إِلَّا قَلِيلًا (76) سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنَا وَلَا تَجِدُ لِسُنَّتِنَا تَحْوِيلًا (77)}
{وَلَوْلاَ أَن ثبتناك} على ما أنت عليه من الحق بعِصمتنا لك {لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلاً} من الركون الذي هو أدنى ميلٍ أي لولا تثبيتنا لك لقاربت أن تميلَ إليهم شيئاً يسيراً من الميل اليسيرِ لقوة خَدعِهم وشدة احتيالِهم، لكن أدركتْك العصمةُ فمنعَتْك من أن تقرَبَ من أدنى مراتبِ الركونِ إليهم فضلاً عن نفس الركونِ، وهذا صريحٌ في أنه عليه الصلاة والسلام ما همّ بإجابتهم مع قوة الداعي إليها، ودليلٌ على أن العصمةَ بتوفيق الله تعالى وعنايتِه.
{أَذِاً} لو قاربت أن تركنَ إليهم أدنى رَكْنة {إِذًا لأذقناك ضِعْفَ الحياة وَضِعْفَ} أي عذابَ الدنيا وعذابَ الآخرة ضعفَ ما يُعذَّب به في الدارين بمثل هذا الفعلِ غيرُك لأن خطأَ الخطيرِ خطيرٌ، وكان أصلُ الكلامِ عذاباً ضِعفاً في الممات بمعنى مضاعفاً ثم حُذف الموصوفُ وأُقيمت الصفةُ مُقامَه ثم أضيفت إضافةَ موصوفِها، وقيل: الضِعف من أسماء العذاب، وقيل: المرادُ بضِعف الحياة عذابُ الآخرة وبضِعف المماتِ عذابُ القبر {ثُمَّ لاَ تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيرًا} يدفع عنك العذابَ.
{وَإِن كَادُواْ} الكلامُ فيه كما في الأول أي كاد أهلُ مكة {لَيَسْتَفِزُّونَكَ} أي ليُزعِجونك بعداوتهم ومكرِهم {مّنَ الأرض} أي الأرضِ التي أنت فيها وهي أرضُ مكة {لِيُخْرِجُوكَ مِنْهَا وَأَذّاً لاَّ يَلْبَثُونَ} بالرفع عطفاً على خبر كاد، وقرئ: {لا يلبثوا} بالنصب بإعمال إذن على أن الجملةَ معطوفةٌ على جملة وإن كادوا ليستفزونك {خلافك} أي بعدك قال:
خلت الديارُ خِلافَهم فكأنما ** بسَطَ الشواطِبُ بينهن حصيراً

أي لو خرجتَ لا يبقَون بعد خروجِك وقرئ: {خلفك} {إِلاَّ قَلِيلاً} إلا زماناً قليلاً وقد كان كذلك فإنهم أُهلكوا ببدر بعد هجرتِه عليه الصلاة والسلام، وقيل: نزلت الآيةُ في اليهود حيث حسدوا مقامَ النبي عليه الصلاة والسلام بالمدينة، فقالوا: الشامُ مقامُ الأنبياءِ عليهم السلام فإن كنت نبياً فالحَقْ بها حتى نؤمِنَ بك، فوقع ذلك في قلبه عليه الصلاة والسلام فخرج مرحلةً فنزلت فرجع ثم قُتل منهم بنو قريظة وأُجليَ بنو النضير (بعدهم) بقليل.
{سُنَّةَ مَن قَدْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِن رُّسُلِنَا} نُصب على المصدرية أي سنّ الله تعالى سُنةً وهي أن يُهلك كلَّ أمة أَخرجت رسولَهم من بين أظهرِهم، فالسنةُ لله تعالى وإضافتُها إلى الرسل لأنها سُنّتْ لأجلهم على ما ينطِق به قوله عز وجل: {وَلاَ تَجِدُ لِسُنَّتِنَا تَحْوِيلاً} أي تغيّراً.

.تفسير الآيات (78- 79):

{أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآَنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآَنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا (78) وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا (79)}
{أَقِمِ الصلاة لِدُلُوكِ الشمس} لزوالها كما ينبىء عنه قولُه عليه الصلاة والسلام: «أتاني جبريلُ عليه السلام لدُلوك الشمس حين زالت فصلّى بي الظهرَ». واشتقاقُه من الدّلْك لأن من نظر إليها حينئذ يدُلك عينه، وقيل: لغروبها من دلَكَت الشمس أي غربت، وقيل: أصلُ الدلوك الميلُ فينتظم كِلا المعنيين، واللامُ للتأقيت مِثلُها في قولك: لثلاثٍ خلَوْن {إِلَى غَسَقِ اليل} إلى اجتماع ظلمتِه وهو وقتُ صلاةِ العِشاء، وليس المرادُ إقامتَها فيما بين الوقتين على وجه الاستمرارِ بل إقامةَ كل صلاةٍ في وقتها الذي عُيِّن لها ببيان جبريلَ عليه السلام، كما أن أعدادَ ركعاتِ كل صلاةٍ موكولةٍ إلى بيانه عليه السلام، ولعل الاكتفاءَ ببيان المبدأ والمنتهى في أوقات الصلواتِ من غير فصل بينها لما أن الإنسانَ فيما بين هذه الأوقاتِ على اليقظة فبعضُها متصلٌ ببعض بخلاف أولِ وقتِ العشاءِ والفجرِ، فإنه باشتغاله فيما بينهما بالنوم ينقطع أحدُهما عن الآخر ولذلك فُصل وقتُ الفجر عن سائر الأوقات، وقيل: المرادُ بالصلاة صلاةُ المغرب، والتحديدُ المذكور بيانٌ لمبدئه ومنتهاه واستُدِل به على امتداد وقتِه إلى غروب الشفق، وقوله تعالى: {وَقُرْءَانَ الفجر} أي صلاةَ الفجر نُصب عطفاً على مفعول أقم أو على الإغراء قاله الزجّاج، وإنما سُمِّيت قرآنا لأن رُكنُها كما تُسمّى ركوعاً وسجوداً واستُدل به على الركنية، ولكن لا دِلالةَ له على ذلك لجواز كونِ مدارِ التجوز كونَ القراءة مندوبةً فيها. نعم لو فُسّر بالقراءة في صلاة الفجر لدل الأمرُ بإقامتها على الوجوب فيها نصاً وفيما عداها دِلالةً، ويجوز أن يكون {وقرآنَ الفجر} حثًّا على تطويل القراءةِ في صلاة الفجر {إِنَّ قُرْءَانَ الفجر} أظهر في مقام الإضمارِ إبانةً لمزيد الاهتمامِ به {كَانَ مَشْهُودًا} يشهده ملائكةُ الليل وملائكةُ النهار أو شواهدُ القدرة من تبدُّل الضياء بالظلمة والانتباهِ بالنوم الذي هو أخو الموتِ، أو يشهده كثيرٌ من المصلين أو من حقه أن يشهَده الجمُّ الغفيرُ فالآيةُ على تفسير الدُّلوك بالزوال جامعةٌ للصلوات الخمس، وعلى تفسيره بالغروب لِما عدا الظهرَ والعصر.
{وَمِنَ اليل} قيل: هو نصبٌ على الإغراء أي الزمْ بعضَ الليل، وقيل: لا يكون المغرى به حرفاً ولا يجدي نفعاً كونُ معناها التبعيضَ، فإن واو مع ليست اسماً بالإجماعِ وإن كانت بمعنى الاسمِ الصريحِ بل هو منصوبٌ على الظرفية بمضمر أي قم بعضَ الليل {فَتَهَجَّدْ بِهِ} أي أزِلْ وألقِ الهجودَ أي النوم فإن صيغةَ التفعّل تجيء للإزالة كالتحرّج والتحنّث والتأثّم ونظائرِها، والضميرُ المجرورُ للقرآن من حيث هو لا بقيد إضافتِه إلى الفجر أو البعضِ المفهوم من قوله تعالى: {وَمِنَ اليل}، أي تهجد في ذلك البعضِ على أن الباء بمعنى في، وقيل: منصوبٌ بتهجد أي تهجدْ بالقرآن بعضَ الليل على طريقة وإياي فارهبون {نَافِلَةً لَّكَ} فريضةً زائدةً على الصلوات الخمسِ المفروضةِ خاصةً بك دون الأمة ولعله هو الوجهُ في تأخير ذكرِها عن ذكر صلاةِ الفجر مع تقدم وقتها على وقتها أو تطوعاً، لكن لا لكونها زيادةً على الفرائض بل لكونها زيادةً له صلى الله عليه وسلم في الدرجات على ما قال مجاهد والسدي، فإنه عليه السلام مغفورٌ له ما تقدم من ذنبه وما تأخر فيكون تطوعُه زيادةً في درجاته بخلاف من عداه من الأمة فإن تطوعَهم لتكفير ذنوبهم وتدارُكِ الخللِ الواقعِ في فرائضهم، وانتصابُها إما على المصدرية بتقدير تنفّلْ أو بجعل تهجدْ بمعناه أو بجعل نافلةً بمعنى تهجداً فإن ذلك عبادةٌ زائدةٌ، وإما على الحالية من الضمير الراجعِ إلى القرآن أي حالَ كونها صلاةً نافلةً، وإما على المفعولية لتهجّدْ إذا جُعل بمعنى صلِّ وجعل الضميرُ المجرور للبعض، أي فصلِّ في ذلك البعضِ نافلةً لك.
{عسى أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ} الذي يبلّغك إلى كمالك اللائقِ بك من بعد الموت الأكبرِ كما انبعثْتَ من النوم الذي هو الموتُ الأصغرُ بالصلاة والعبادة {مَقَاماً} نُصب على الظرفية على إضمار فيقيمَك، أو تضمين البعثِ معنى الإقامة إذ لابد من أن يكون العاملُ في مثل هذا الظرفِ فعلاً فيه معنى الاستقرارِ، ويجوز أن يكون حالاً بتقدير مضافٍ أي يبعثك ذا مَقام {مَّحْمُودًا} عندك وعند جميعِ الناس، وفيه تهوينٌ لمشقة قيامِ الليل. وروى أبو هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «المقامُ المحمودُ هو المقامُ الذي أشفع فيه لأمتي» وعن ابن عباس رضي الله عنهما: مقاماً يحمَدُك فيه الأولون والآخرون وتُشرف فيه على جميع الخلائق تسأل فتعطى وتشفع فتُشفّع ليس أحدٌ إلا تحت لوائِك. وعن حذيفةَ رضي الله عنه: «يُجْمَعُ الناسُ في صَعيدٍ واحد فلا تتكلم فيه نفسٌ، فَأَوَّلُ مَدْعُوَ محمدٌ صلى الله عليه وسلم فيقولُ: لبّيكَ وسَعْدَيْكَ والشرُّ ليسَ إليكَ والمَهْديُّ من هَدَيْتَ وعبدُكَ بين يديك وبك وإليك لا ملجأ ولا منجا منكَ إلا إليكَ تباركتَ وتعاليتَ سبحانك ربَّ البيت».

.تفسير الآيات (80- 81):

{وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطَانًا نَصِيرًا (80) وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا (81)}
{وَقُل رَّبّ أَدْخِلْنِى} أي القبرَ {مُدْخَلَ صِدْقٍ} أي إدخالاً مرضياً {وَأَخْرِجْنِى} أي منه عند البعثِ {مُخْرَجَ صِدْقٍ} أي إخراجاً مَرْضياً مَلْقيًّا بالكرامة، فهو تلقينٌ للدعاء بما وعده من البعث المقرونِ بالإقامة المعهودةِ التي لا كرامةَ فوقها، وقيل: المرادُ إدخالُ المدينةِ والإخراجُ من مكةَ، وتغييرُ ترتيبِ الوجودِ لكون الإدخالِ هو المقصدُ، وقيل: إدخالُه عليه السلام مكةَ ظاهراً عليها وإخراجُه منها آمناً من المشركين، وقيل: إدخالُه الغارَ وإخراجُه منه سالماً، وقيل: إدخالُه فيما حمله من أعباء الرسالةِ وإخراجُه منه مؤدياً حقَّه، وقيل: إدخالُه في كل ما يلابسه من مكان أو أمرٍ وإخراجُه منه، وقرئ: {مَدخل} و{مَخرج} بالفتح على معنى أدخلني فأدخُلَ دخولاً وأخرجني فأخرُجَ خروجاً كقوله:
وعضةُ دهرٍ يا ابنَ مروانَ لم تدَع ** من المال إلا مُسحَتٌ أو مجلِّفُ

أي لم تدَع فلم يبْقَ {واجعل لّى مِن لَّدُنْكَ سلطانا نَّصِيرًا} حجةً تنصُرني على من يخالفني أو مُلكاً وعزاً ناصراً للإسلام مظهِراً له على الكفر، فأجيبت دعوتُه عليه السلام بقوله عز وعلا: {والله يَعْصِمُكَ مِنَ الناس} {أَلاَ إِنَّ حِزْبَ الله هُمُ المفلحون} {لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدين كُلّهِ} {لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأرض} {وَقُلْ جَاء الحق} أي الإسلامُ والوحيُ الثابتُ الراسخ {وَزَهَقَ الباطل} أي ذهب وهلك الشركُ والكفرُ وتسويلاتُ الشيطان، من زهَق روحُه إذا خرج {إِنَّ الباطل} كائناً ما كان {كَانَ زَهُوقًا} أي شأنُه أن يكون مضمحلاً غيرَ ثابتٍ وهو عِدةٌ كريمةٌ بإجابة الدعاءِ بالسلطان النصيرِ الذي لُقِّنه. عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه عليه السلام دخل مكةَ يوم الفتح وحول البيت ثلاثُمائةٍ وستون صنماً فجعل ينكُت بمِخْصَرة كانت بيده في أعينها واحداً واحداً ويقول: جاء الحقُ وزهق الباطلُ فينكبّ لوجهه حتى أَلقْى جميعَها، وبقيَ صنمُ خُزاعةَ فوق الكعبة وكان من صُفْر فقال: «يا عليُّ ارمِ به» فصعِد فرمى به فكسره.

.تفسير الآيات (82- 83):

{وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآَنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا (82) وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الْإِنْسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ كَانَ يَئُوسًا (83)}
{وَنُنَزّلُ مِنَ القرءان} وقرئ: {نُنْزل} من الإنزال {مَا هُوَ شِفَاء} لِما في الصدور من أدواء الرَّيْب وأسقامِ الأوهام {وَرَحْمَةٌ لّلْمُؤْمِنِينَ} به العالِمين بما في تضاعيفه، أي ما هو في تقويم دينِهم واستصلاحِ نفوسِهم كالدواء الشافي للمرضى، ومن بيانيةٌ قُدِّمت على المبيَّن اعتناءً فإن كلَّ القرآنِ كذلك، وعن النبي عليه السلام: «مَنْ لَمْ يَسْتَشْفِ بالقرآن فلا شفاه الله» أو تبعيضةٌ لكن لا بمعنى أن بعضَه ليس كذلك بل بمعنى إنا ننزل منه في كل نَوْبةٍ ما تستدعي الحكمةُ نزولَه حينئذ، فيقع ذلك ممن نزل عليهم بسبب موافقتِه لأحوالهم الداعيةِ إلى نزوله موقعَ الدواءِ الشافي المصادفِ لا بأنه من المرضى المحتاجين إليه بحسب الحالِ من غير تقديمٍ ولا تأخير، فكلُّ بعضٍ منه متصفٌ بالشفاء لكن لا في كل حينٍ بل عند تنزيلِه، وتحقيقُ التبعيضِ باعتبار الشفاءِ الجُسماني كما في الفاتحة وآياتِ الشفاء لا يساعده قوله سبحانه: {وَلاَ يَزِيدُ الظالمين إَلاَّ خَسَارًا} أي لا يزيد القرآنُ كلُّه أو كلُّ بعضٍ منه الكافرين المكذبين به الواضعين للأشياء في غير مواضعِها مع كونه في نفسه شفاءً من الأسقام إلا خَساراً أي هلاكاً بكفرهم وتكذيبِهم لا نقصاناً كما قيل، فإن ما بهم من داء الكفرِ والضلالِ حقيقٌ بأن يعبّر عنه بالهلاك لا بالنقصان المنبىءِ عن حصول بعضِ مبادي الأسقامِ فيهم وزيادتِهم في مراتب الهلاك من حيث أنهم كلما جددوا الكفرَ والتكذيبَ بالآيات النازلةِ تدريجاً ازدادوا بذلك هلاكاً، وفيه إيماءٌ إلى أن ما بالمؤمنين من الشُّبَه والشكوك المعتريةِ لهم في أثناء الاهتداءِ والاسترشادِ بمنزلة الأمراضِ، وما بالكفرة من الجهل العنادِ بمنزلة الموتِ والهلاك، وإسنادُ الزيادة المذكورةِ إلى القرآن مع أنهم هم المُزْدادون في ذلك بسوء صُنعِهم باعتبار كونِه سبباً لذلك، وفيه تعجيبٌ من أمره حيث يكون مداراً للشفاء والهلاك.
{وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الإنسان} بالصحة والنعمة {أَعْرَضَ} عن ذكرنا فضلاً عن القيام بموجب الشكر {وَنَأَى} تباعدَ عن طاعتنا {بِجَانِبِهِ} النأيُ بالجانب أن يَلْويَ عن الشيء عِطفَه ويُولِيَه عُرضَ وجهِه، فهو تأكيدٌ للإعراض أو عبارةٌ عن الاستكبار لأنه من ديدن المستكبرين {وَإِذَا مَسَّهُ الشر} من فقر أو مرض أو نازلةٍ من النوازل، وفي إسناد المِساسِ إلى الشر بعد إسنادِ الإنعامِ إلى ضمير الجلالةِ إيذانٌ بأن الخيرَ مرادٌ بالذات والشرَّ ليس كذلك {كَانَ يَئُوساً} شديدَ اليأس من رَوْحنا، وهذا وصفُ للجنس باعتبار بعضِ أفرادِه ممن هو على هذه الصفةِ، ولا ينافيه قوله تعالى: {وَإِذَا مَسَّهُ الشر فَذُو دُعَاء عَرِيضٍ} ونظائرُه، فإن ذلك شأنُ بعضٍ آخرين منهم، وقيل: أريد به الوليدُ بنُ المغيرة وقرئ: {ناء} إما على القلب كما يقال: راءَ في رأي وإما على أنه بمعنى نهض.

.تفسير الآيات (84- 85):

{قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدَى سَبِيلًا (84) وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا (85)}
{قُلْ كُلٌّ} أي كلُّ أحدٍ منكم وممن هو على خلافكم {يَعْمَلُ} عمله {على شَاكِلَتِهِ} طريقتِه التي تشاكل حالَه في الهدى والضلالة أو جوهرِ روحِه وأحوالِه التابعة لمزاج بدنِه {فَرَبُّكُمْ} الذي برأكم على هذه الطبائِع المتخالفة {أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أهدى سَبِيلاً} أي أسدُّ طريقاً وأبينُ مِنهاجاً وقد فُسِّرت الشاكلةُ بالطبيعة والعادةِ والدين.
{وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الروح} الظاهرُ أن السؤالَ كان عن حقيقة الروح الذي هو مدبّرُ البدنِ الإنساني ومبدأُ حياتِه، روي (أن اليهودَ قالوا لقريش: سلوه عن أصحاب الكهفِ وعن ذي القَرنين وعن الرّوح، فإن أجاب عنها جميعاً أو سكت فليس بنبي، وإن أجاب عن بعض وسكت عن بعض فهو نبيٌّ، فبيّن لهم القصتين وأبْهم أمرَ الروح) وهو مُبْهمٌ في التوراة {قُلِ الروح} أُظهر في مقام الإضمارِ إظهاراً لكمال الاعتناءِ بشأنه {مِنْ أَمْرِ رَبّى} كلمةُ من بيانيةٌ والأمرُ بمعنى الشأنِ والإضافةُ للاختصاص العِلْميِّ لا الإيجاديّ لاشتراك الكلِّ فيه وفيها من تشريف المضافِ ما لا يخفى كما في الإضافة الثانيةِ من تشريف المضافِ إليه، أي هو من جنس ما استأثر الله تعالى بعلمه من الأسرار الخفيةِ التي لا يكاد يحوم حولها عقولُ البشر.
{وَمَا أُوتِيتُم مّن العلم إِلاَّ قَلِيلاً} لا يمكن تعلّقُه بأمثال ذلك، روي أنه صلى الله عليه وسلم لما قال لهم ذلك. قالوا: نحن مختصّون بهذا الخطابِ قال عليه الصلاة والسلام: «بل نحن وأنتم». فقالوا: ما أعجبَ شأنَك، ساعةً تقول: {وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِىَ خَيْرًا كَثِيرًا} وساعةً تقول هذا، فنزلت: {وَلَوْ أَنَّ مَّا فِي الأرض مِن شَجَرَةٍ أَقْلاَمٌ} الآية، وإنما قالوا ذلك لركاكة عقولِهم فإن الحكمةَ الإنسانيةَ أن يعلم من الخير ما تسعه الطاقةُ البشريةُ بل ما نيط به المعاشُ والمعادُ وذلك بالإضافة إلى ما لا نهايةَ له من معلوماته سبحانه قليلٌ يُنال به خيرٌ كثيرٌ في نفسه أو بالنسبة إلى الإنسان أو هو من الإبداعيات الكائنةِ بمحض الأمرِ التكوينيِّ من غير تحصّلٍ من مادة وتولُّدٍ من أصل كأعضاء الجسدِ حتى يمكن تعريفُه ببعض مباديه، ومآلُه أنه من عالم الأمرِ لا من عالم الخَلق وليس هذا من قَبيل قوله سبحانه: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ} فإن ذلك عبارةٌ عن سرعة التكوينِ سواءٌ كان الكائنُ من عالم الأمرِ أو من عالم الخلقِ، وفيه تنبيهٌ على أنه مما لا يحيط بكنهه دائرةُ إدراكِ البشر وإنما الممكن هذا القدرُ الإجماليُّ المندرجُ تحت ما استُثني بقوله تعالى: {وَمَا أُوتِيتُم مّن العلم إِلاَّ قَلِيلاً} أي إلا علماً قليلاً تستفيدونه من طرُق الحواسِّ فإن تعقّلَ المعارفِ النظرية إنما هو من إحساس الجزئياتِ، ولذلك قيل: من فقد حِسًّا فقد علماً، ولعل أكثر الأشياءِ لا يدركه الحسُّ ولا شيءٌ من أحواله التي يدور عليها معرفةُ ذاتِه، وأما حملُ ما ذكر على السؤال عن قِدَمه وحدوثه وجعلُ الجوابِ إخباراً بحدوثه أي كائنٌ بتكوينه حادثٌ بإحداثه بالأمر التكويني، فمع عدم ملاءمتِه لحال السائلين لا يساعده التعرّضُ لبيان قلةِ علمِهم، فإن ما سألوا عنه مما يفي به علمُهم حينئذ وقد أُخبر عنه، وقيل: المرادُ بالروح خلقٌ عظيم رُوحاني أعظمُ من المَلَك، وقيل: جبريلُ عليه السلام، وقيل: القرآنُ، ومعنى من أمر ربي من وحيه وكلامِه لا من كلامِ البشر.